السبت، 25 أكتوبر 2014

إجابة على تساؤلات ورد على افتراءات -1 -

إجابة على تساؤلات ورد على افتراءات -1 -     
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه ؛؛؛ أما بعد:
فهذا هو جزء من ردي على أحد الكذابين المتعالمين؛ أجيب فيه على بعض ما نسبه إلى زوراً وبهتاناً، وظلماً وعدواناً؛ فأقول مستعيناً بالله:
قوله: "قولك: كل من وقع في بدعة نحكم عليها بها؛ لا سيما إن كانت في مسائل الأصول.
وقولك: أنا أريد مثالاً واحداً في عصر السلف، وحتى عصر الإمام أحمد؛ أن رجلاً وقع في بدعة، ولم يبدعه السلف.
وهذه القاعدة التي تؤصلها في رسائلك وتعاملاتك خطيرة جداً؛ تخالف منهج السلف الصالح. ولمعرفة منهج السلف في التعامل مع أخطاء العلماء؛ تأمل أيها الموفق؛ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو يقول: (وكثير من مجتهدي السلف والخلف؛ قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم).
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: (ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم؛ ولا نقتدي به في بدعته، وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك).
وقال ابن القيم: (من قواعد الشرع والحكمة أيضاً؛ أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر؛ فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره).
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين؛ فأما أهل البدع والضلالة، ومن تشبه منهم بالعلماء؛ وليس منهم؛ فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم، وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم).
ومما لا يخفى عليك أن هذه القاعدة الظالمة؛ من تأصيلات الحدادية الغلاة الذين يسعون لتبديع أهل العلم، والطعن عليهم, ولو فتحنا الباب لتبديع كل عالم مجتهد؛ لم يبق لنا أحد من العلماء؛ فما من عالم إلا وقد أخطأ مجتهداً؛ مع أن كثيراً من المتسرعين؛ يظن أنه قد قامت على العالم؛ الحجة الفلانية في المسألة الفلانية؛ رغم أن العالم يرى هذه الحجة الواضحة عند هؤلاء من الشبهات, فكف الألسنة عن أهل العلم؛ واجب.
وأهل السنة يخطئون ولا يبدعون؛ لا سيما في المسائل التي قد يخفى فيها الدليل.
ومن صفات الحدادية التي نقلتها في بعض مقالاتك عن العلامة المجاهد الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله ]كذا قلت في رسالتك، وأما في مجالسك الخاصة فهو حامل راية الإرجاء وناشره في العالم اليوم؛ فالله المستعان على هذه التقية الباطلة[
(قولهم بتبديع كل من وقع في بدعة، وابن حجر عندهم أشد وأخطر من سيد قطب)
ثم قلت معلقاً: فهل تجدون من قريب أو من بعيد لمزاً لا أقول تبديعاً لابن حجر؟
بل لمن هو دون ابن حجر؛ فهذه كتبنا ورسائلنا انظروا فيها؛ فإن وجدتم شيئاً من ذلك فأظهروه، وإلا فارعووا، واتقوا الله، ودعوا التلبيس، والتدليس" انتهى كلامه
قلت:
لو لأمسك الجاهل عن الكلام؛ لقل الخلاف.
وما نسبه إلي؛ حق، وهو مذهب أهل السنة؛ بلا خلف بينهم.
وهو باعتراضه هذا؛ نادى على نفسه بالجهل، والضلال.
لأن مقتضى كلامه: أن من أخطأ في الأصول مجتهداً؛ لا يبدع.
فسوغ الاجتهاد في أصول الملة؛ وعذر المبتدعين، وطعن في أئمة الدين الذين بدعوهم، ولم يعذروهم.
وهذا لعمري داهية دهياء؛ سبقه إليها رجل من رؤوس الضلال؛ جوز الاجتهاد في أصول الدين؛ ومن ثم نافح عن المبتدعة - مفرقاً بين من أخطأ عن عمد، وبين من أخطأ عن اجتهاد - الأمر الذي أداه إلى الدفاع عن الجهم بن صفوان؛ بحجة أنه مجتهد؛ فمن ثم لا يجوز تبديعه، ولا تضليله.
فقال بالحرف: "كان داعياً إلى الكتاب والسنة مجتهداً".
يعني الجهم بن صفوان.
وقال عن رؤوس الضلال: "وهم الذين أسميهم (المبدعين) بتشديد الدال المفتوحة؛ أي المنسوبين للبدعة. وإنما آثرنا هذا على تسمية الأكثرين لهم بـ (المبتدعين) لأني لا أرى أنهم تعمدوا البدعة؛ لأنهم مجتهدون يبحثون عن الحق؛ فلو أخطأوه بعد بذل الجهد؛ كانوا مأجورين غير ملومين؛ فلا يليق تسميتهم (مبتدعة)؛ بل (مُبدَّعة)".
انظر (تاريخ الجهمية والمعتزلة) و(الجرح والتعديل) للقاسمي الضال.
ولي مقالة مفردة في بيان ضلاله، وجهله، وخباله؛ يسر الله نشرها.
وهذا القول المزري للقاسمي؛ تلقفه منه الألباني؛ فقال:
"الخطأ في الفروع مغتفر، وفي الأصول غير مغتفر؛ هذا الفهم لا أصل له في الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح".
وقال: "اشتهر بين كثير من العلماء قديماً وحديثاً؛ أن المسلم اذا أخطأ فيما يسمي عند العلماء بالفروع يعذر؛ أما اذا أخطأ في الأصول - في العقيدة - فلا يعذر. نحن نعتقد أن هذا التفريق - أولاً - ليس له دليل من الشرع، وثانياً: نعتقد أن المسلم من الواجب عليه أن يتقصد دائماً وأبداً؛ أن يعرف الحق مما اختلف فيه الناس؛ سواء كان ذلك متعلقاً في الأصول أو الفروع أو في العقائد أو في الأحكام؛ فاذا أفرغ جهده لمعرفة الحق فيما اختلفوا فيه؛ فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد".
قلت:
قال ابن أبي زيد القيرواني: "ومن قول أهل السنة: إنه لا يعذر من أداه اجتهاده إلى بدعة؛ لأن الخوارج اجتهدوا في التأويل فلم يعذروا؛ إذ خرجوا بتأويلهم عن الصحابة؛ فسماهم عليه الصلاة والسلام (مارقين من الدين) وجعل المجتهد في الأحكام مأجوراً، وإن أخطأ"اهـ (الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ ص 121)
وقال السجزي: "وقال عمر، وسهل بن حنيف: (اتهموا الرأي على الدين). ولا مخالف لهما في الصحابة، وقد كانا يجتهدان في الفروع؛ فعلم أنهما أرادا بذلك المنع من الرجوع إلى العقل في المعتقدات"اهـ (رسالة السجزي إلى أهل زبيد ص 132-134)
وقال ابن جرير: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اجتهد فأصاب؛ فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر) وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفة غير مؤتلفة، والأصول في الدلالة عليه مفترقة غير متفقة، وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه؛ غير أنه يغمض بعضه غموضاً يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثير من بغاته. والآخر منهما غير معذور بالخطأ فيه مكلف قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفر بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحته متفقة غير مفترقة، ومؤتلفة غير مختلفة، وهي مع ذلك ظاهرة للحواس"اهـ (التبصير في معالم الدين ص 113-114)
وقال أبو المظفر السمعاني: "لا بد للعامي من مفت؛ فإذا لم يجد حكم الحادثة في الكتاب والسنة؛ فلابد من الرجوع إلى المستنبطات منهما؛ فوسع الله هذا الأمر على هذه الأمة، وجوز الاجتهاد، ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة. ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات؛ لأنها محصورة محدودة؛ قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى أمر في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ باعتقاد أشياء معلومة؛ لا مزيد عليها ولا نقصان عنها، وقد أكملها بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}"اهـ (الانتصار لأهل الحديث ص 32)
وقال ابن البناء الحنبلي: "لا يختلفون في شيء من هذه الأصول، ومن فارقهم في شيء منها؛ نابذوه وباغضوه، وبدعوه، وهجروه"اهـ (المختار ص 66)
وقال الدارمي: "أما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الرب؛ فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض، والأحكام التي نراها بأعيننا، وتسمع في آذاننا؛ فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون، وقصرت عنها الظنون؟"اهـ (الرد على المريسي 1/220)
وقال ابن بطة بعد أن ذكر جملة من أصول أهل السنة: "فهذا وأشباهه مما يطول شرحه؛ لم يزل الناس مذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا؛ مجمعين عليه في شرق الأرض وغربها، وبرها وبحرها وسهلها وجبلها، يرويه العلماء رواة الآثار وأصحاب الأخبار، ويعرفه الأدباء والعقلاء، ويجمع على الإقرار به الرجال والنسوان، والشيب والشبان، والأحداث والصبيان، في الحاضرة والبادية، والعرب والعجم؛ لا يخالف ذلك، ولا ينكره، ولا يشذ عن الإجماع مع الناس فيه؛ إلا رجل خبيث زائغ، مبتدع محقور مهجور مدحور؛ يهجره العلماء، ويقطعه العقلاء؛ إن مرض لم يعودوه، وإن مات لم يشهدوه .. ثم اختلفوا بعد إجماعهم على أصل الدين واتفاقهم على شريعة المسلمين؛ اختلافاً لم يصر بهم إلى فرقة ولا شتات، ولا معاداة ولا تقاطع وتباغض؛ فاختلفوا في فروع الأحكام والنوافل التابعة للفرائض؛ فكان لهم وللمسلمين فيه مندوحة، ونفس وفسحة ورحمة، ولم يعب بعضهم على بعض ذلك، ولا أكفره ولا سبه ولا لعنه .. فاختلاف الفقهاء يا أخي رحمك الله؛ في فروع الأحكام، وفضائل السنن؛ رحمة من الله بعباده، والموفق منهم مأجور، والمجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور، وهو يحسن نيته، وكونه في جملة الجماعة في أصل الاعتقاد والشريعة مأجور .. وإن تأول متأول من الفقهاء مذهباً في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، وقعد عنه فيها الاتباع؛ كان منتهى القول بالعتب عليه: أخطأت؛ لا يقال له: كفرت ولا جحدت ولا ألحدت؛ لأن أصله موافق للشريعة، وغير خارج عن الجماعة في الديانة"اهـ (بتصرف من الإبانة 5/386-388)
وقال عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: "وأهل العلم والإيمان؛ لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه؛ أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك"اهـ (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل 2/511)
وقال: "المسائل التي يسقط الذم عن المخطئ فيها إذا اجتهد واتقى الله ما استطاع؛ هي المسائل الاجتهادية، أي التي يسوغ الاجتهاد فيها، أو ما يخفى دليله في نفسه, ولا يعرفه إلا الآحاد؛ بخلاف ما علم بالضرورة من دين الإسلام؛ كمعرفة الله بصفاته وأسمائه وأفعاله وربوبيته، ومعرفة ألوهيته، وكتوحيده بأفعال العبد وعباداته؛ فأي اجتهاد يسوغ هنا، وأي خفاء، ولبس فيه؟
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وجميع الكفار؛ إلا من عاند منهم، قد أخطأوا في هذا الباب، واشتبه عليهم؛ أفيقال بعذرهم، وعدم تأثيمهم، أو أجرهم؟
سبحان الله! ما أقبح الجهل، وما أبشعه"اهـ (منهاج التأسيس ص 18-19)
وقال ابن باز: "الاجتهاد محله المسائل الفرعية التي لا نص فيها؛ أما العقيدة والأحكام التي فيها نص صريح من الكتاب، أو السنة الصحيحة؛ فليست محلاً للاجتهاد؛ بل الواجب على الجميع الأخذ بالنص، وترك ما خالفه"اهـ (مجموع فتاوى ابن باز 1/116)
وقال ابن سحمان: "وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح، والشرك العظيم، والتعطيل بحقيقة وجود رب العالمين؛ إلا خطأهم في هذا الباب الذي اجتهدوا فيه؛ فضلوا، وأضلوا عن سواء السبيل؟
وهل كفر القرامطة وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلع ربقة الشريعة؛ إلا باجتهادهم فيما زعموا؟
وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت ما استباحت من الكفر والشرك، وعبادة الأئمة الاثني عشر، وغيرهم، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين؛ إلا باجتهادهم فيما زعموا"اهـ (إجماع أهل السنة النبوية ص 149)
قلت: وكذلك الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، وكافة فرق الضلال.
ولو فتح هذا الباب؛ فلن نجد مبتدعاً على وجه الأرض - بل ولا كافراً - لأنه ما من أحد إلا ويدعي أنه مجتهد.
ومن ثم تسقط عنه المؤاخذة.
ويكون تبديع السلف ليعقوب بن شيبة، والكرابيسي، ومسعر، وعمرو بن مرة، وعمر بن ذر، وابن أبي رواد، وابن أبي سليمان، وداود، والمحاسبي، وابن سوار، والحسن بن حي - وغيرهم كثير - من الظلم، والتهور، والتعسف.
ويكون موقف المتأخرين من أبي حنيفة، والباقلاني، والبيهقي، وابن الجوزي، والغزالي، والنووي، وابن حجر، وأضرابهم؛ لا غبار عليه.
ويكون مذهبهم أعلم وأسلم وأحكم.
وما فات السلف، وند عن فهمهم؛ استدركوه هم، والحمد لله.
وقد كنا زماناً ننقم على الخلف مخالفتهم لمنهج السلف في هذه المسألة؛ بيد أنا اليوم نغبطهم على وفور علمهم، وعظيم ورعهم، وسلامة أفهامهم.
فبهم عرفنا؛ أن الاجتهاد مانع من التبديع.
وأن كل مجتهد مصيب.
وحتى لو لم يكن مصيباً؛ فلن يعدم أجراً.
فعلام التبديع إذاً، والتجديع!
أما المردود عليه؛ فلا يصلح مع جهله الفاضح؛ إلا إلزامه بما يلي:
1-            إثبات أن ما نسبه إلي؛ ليس هو منهج السلف أصلاً؛ فضلاً عن أن يكون إجماعهم.
2-            فإن لم يتسن؛ فلا أقل من إثبات أن المسألة خلافية، ونحن نرضى منه بذلك.
3-            ذكر مثال واحد؛ لرجل أخطأ في أصل من الأصول، ولم يبدعه أئمة السلف؛ بل عذروه لاجتهاده.
فإن لم يفعل - ولن يفعل - فليبك على خطيئته.
قوله: (لا سيما إن كانت في مسائل الأصول).
فالحمد لله الذي أنطقه الله بالحق، وجعله يكذب نفسه بنفسه؛ فإنه قد ادعى علي؛ أني أبدع كل من وقع في بدعة، ووافقه على هذا الكذب؛ خلانه في الشر؛ كما وافقوه على ما مر من جهله المركب.
فليقارن القارئ بين قوله هنا: (قولك: كل من وقع في بدعة نحكم عليها بها؛ لا سيما إن كانت في مسائل الأصول).
وليتأمل القيد الذي ذكره عني
وبين قوله - قولهم - هناك: (هل كل من وقع في البدعة يبدع؟ وما ضوابط ذلك؟)
و: (إطلاقكم القول ببدعية كل من وقع في بدعة).
و: (وهذا الأصل: أعني تبديع كل من وقع في بدعة؛ يدندن به الحدادية في كل محفل).
ثم ليحكم عليهم بما يستحقونه.
قوله: (وهذه القاعدة التي تؤصلها في رسائلك وتعاملاتك خطيرة جداً؛ تخالف منهج السلف الصالح).
قلت:
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
قيل للحسين بن الفضل: "هل تجد في القرآن (من جهل شيئا عاداه؟) فقال: نعم في موضعين }بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ{، وقوله: }وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ"{اهـ (الكشف والبيان 5/133)
وقال ابن عبدالبر: "لقد أحسن أكثم بن صيفي؛ في قوله: (ويل لعالم أمر من جاهله؛ من جهل شيئاً عاداه، ومن أحب شيئا استعبده)"اهـ (جامع بيان العلم 2/1113)
قوله: (لم يبق لنا أحد من العلماء).
فعلى ما فيه مبالغة واضحة؛ فيه إهدار لعلم الجرح والتعديل، وإغلاق لباب التبديع؛ فضلاً عن مخالفته الواضحة لمنهج السلف؛ الذين كانوا ينظرون للقول؛ لا للقائل.
وفيه - أيضاً - الاعتبار بالكثرة، وقد قال الله تعالى: }وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ{، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي النبي، ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي، وليس معه أحد). الحديث.
وفيه كذلك؛ حجة لكل مبطل؛ كقول الزنادقة: لو طبقنا الحدود؛ فلن يسلم لنا إلا القليل!
وقول المرجئة: لو كفرنا عباد القبور؛ لكفرنا ملايين المسلمين!
ذكر إسحاق بن راهويه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم". فقال رجل: يا أبا يعقوب من السواد الأعظم؟ فقال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم. ثم قال: سأل رجل ابن المبارك: من السواد الأعظم؟ قال: أبو حمزة السكري. ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان؛ وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه، ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا: جماعة الناس، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة.
لذا قال ابن القيم: "اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم؛ هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده".
وأخيراً: يبقى لنا أئمة القرون الأولى، وكل سني متمسك بما كانوا عليه؛ فالجماعة هي لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً، والمخالف له كثيراً.
أما ما نقله عن ابن تيمية، والذهبي، وابن القيم، وابن رجب؛ فبيانه كما يلي:
أولاً: كلام ابن تيمية:
نقل عنه؛ قوله: (وكثير من مجتهدي السلف والخلف؛ قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم).
وليس فيه ما يؤيد دعواه، ولو استقصى كلامه؛ لعرف مراده، ولما نسب إليه هذا القول الشنيع.
وقد أجبت على أمثاله ممن يتصيدون من كلام أهل العلم ما يشتهونه؛ فقمت بجمع كلامه في المسألة، ورددته لبعضه؛ فلم أجد فيه مخالفة لمنهج السلف الصالح؛ بل وجدته موافقاً له، وسقته هذا المساق:
·       "مذهب أهل السنة والجماعة؛ مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد؛ فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم، ومن خالف ذلك كان مبتدعاً عند أهل السنة والجماعة"اهـ (منهاج السنة 2/287)
·       فـ "من قال بالكتاب والسنة والإجماع؛ كان من أهل السنة، والجماعة"اهـ (مجموع الفتاوى 3/34)
·       و "من تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة؛ ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً؛ نسبوه إلى البدعة أيضاً"اهـ (درء تعارض العقل والنقل 1/145)
·       و "من تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة؛ فهو ضال مبتدع"اهـ (مجموع الفتاوى 1/160)
·       وكذلك من "جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أحبه ووافقه؛ كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين، وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق"اهـ (مجموع الفتاوى 3/347)
·       لذا كان من "طريقة السلف والأئمة؛ أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية؛ فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً"اهـ (درء تعارض العقل والنقل 1/145)
·       فمن عدل عن ذلك، وخالف طريقتهم "كان مخطئاً في ذلك؛ بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً؛ مغفوراً له خطؤه"اهـ (مجموع الفتاوى 13/361)
·       وليست هناك قاعدة مضطردة في التبديع؛ بل مرد ذلك إلى الاجتهاد؛ إلا إذا كانت البدعة ظاهرة؛ فـ "كثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا، وفعلوا ما هو بدعة  - ولم يعلموا أنه بدعة - إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم .. لذا قد تصدر المقالة المخطئة من إمام قديم فتغتفر له؛ لعدم بلوغ الحجة له، ولا تغتفر لمن وقع بعده في نفس الخطأ؛ لأن الحجة بلغته، ولهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك، ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم"اهـ (بتصرف من مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/191 - 6/61)
فاعط القوس باريها ... وخل الفشر عنك وكثرة الهذيان
وفي رسالتي (قواعد في معرفة البدعة وضوابط التبديع) مزيد بسط، وبيان لمنهج ابن تيمية في هذه المسألة.
ثانياً: كلام الذهبي:
نقل عنه؛ قوله: (ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم؛ ولا نقتدي به في بدعته، وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك).
وهذا ذكره الذهبي في ترجمة (قتادة)؛ حيث قال:
"ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه؛ يغفر زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه. نعم: ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو التوبة له من ذلك"اهـ (سير أعلام النبلاء 5/271)
وقد سبق الحديث عن الذهبي وسِيَره؛ في (الرد الرابع) من هذه السلسلة؛ فليراجع.
والمقصود أن الذهبي لا يحتج به في هذا الباب، وكلامه هذا؛ لا يروج إلا على أمثال المردود عليه؛ ممن يقمشون، ولا يفتشون.
وإلا ففيه تقعيد لمنهج الموازنات الباطل، وتأمل قوله: (ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه).
ولا أظن المردود عليه؛ يقول بهذا.
وكم كنا نتمنى توجيه هذا الكلام؛ بما يتوافق مع الأصول؛ كأن نقول:
مقصود الذهبي؛ أنه لو تركت رواية الحديث عن قتادة وأمثاله؛ ممن تلبسوا ببدعة؛ لاندرست الآثار والسنن؛ فإذا تعذر حفظها إلا بمن فيه بدعة؛ جاز؛ لا سيما ومضرة هذه البدعة؛ دون مضرة ترك ذلك الواجب. انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/212)
لذا قال علي بن المديني: "قلت ليحيى بن سعيد: إن عبدالرحمن - أي: ابن مهدي -  يقول: اترك كل من كان رأسا في بدعة يدعو إليها؛ قال: كيف تصنع بقتادة، وابن أبي رواد، وعمر بن ذر، وذكر قوماً؛ ثم قال يحيى: إن تركت هذا الضرب؛ تركت ناساً كثيراً" اهـ (تهذيب الكمال 23/509)
فمصلحة جمع الحديث، والحفاظ عليه من الضياع؛ أولى من مصلحة هجر المبتدع، وعدم الأخذ عنه. على أن المأخوذ هنا؛ حديثه؛ لا رأيه.
لكنه - أي الذهبي - تكلم بكلام فيه متعلق لأهل البدع؛ لذا كان قوله هذا، وقوله في ترجمة محمد ابن نصر أولى بالاطراح.
وقد صدق ربيع - إمامكم - في قوله: "الذهبي؛ هذا المتسامح، والذي يتعلق فيه الآن أهل الأهواء".
فضلاً عن قول ابن باز: "ليس هو من أهل البصيرة".
فما نقله المردود عليه؛ لا يفرح به سلفي.
بل يفرح به أهل الأهواء والبدع؛ فليته تعلم قبل أن يتكلم.
فإن سبب ما نحن فيه الآن من قيل وقال، وجهل وخبال؛ كلام أمثاله من الذين لا يعلمون، ولا يفهمون، وفي كل واد يهيمون، ومع هذا؛ يشغبون، ويستطيلون، ويتعاظمون.
فقتادة: قدري.
والذهبي كتب هذا الكلام الذي احتج به المردود عليه؛ دفاعاً عنه؛ مخالفاً بذلك أئمة السلف؛ الذين ذموه، وهجروه، لبدعته.
قال حنظلة بن أبي سفيان: "كان طاووس يفر من قتادة، وكان قتادة يرمى بالقدر"اهـ (تهذيب الكمال 23/509)
وقيل له - أي طاووس -: هذا قتادة يأتيك؛ قال: "لئن جاء لأقومنه". قيل: إنه فقيه. قال: "إبليس أفقه منه؛ قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي}"اهـ (الثقات 1/389)
وقال ابن شوذب: "سمعت قتادة يصيح بالقدر في مسجد البصرة صياحاً"اهـ (المعرفة والتاريخ 2/281)
وقال يحيى بن أبي كثير: "لا يزال أهل البصرة بشر ما كان فيهم قتادة"اهـ (السير 5/275)
وقال الشعبي: "قتادة حاطب ليل"اهـ (السير 5/272)
وقيل له: رأيت قتادة؟ "قال: نعم؛ فرأيت كياسته بين حشين"اهـ (الثقات 1/389)
وقال مالك: "أي رجل معمر؛ لولا أنه يروي تفسير قتادة"اهـ (أصول الاعتقاد للالكائي 4/637)
وقال معمر: "لولا كلامه في القدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكر القدر فأمسكوا)؛ لما عدلت به أحداً من أهل دهره"اهـ (الوافي بالوافيات 7/225)
وقال أحمد: "كان قتادة وسعيد يقولان بالقدر، ويكتمان"اهـ (السير 6/414)
والذهبي نفسه؛ يقول عنه: "كان يرى القدر"اهـ (السير 5/271)
ثالثاً: كلام ابن القيم:
نقل عنه قوله: "من قواعد الشرع والحكمة أيضاً؛ أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر؛ فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره".
ولو ذكره بسباقه ولحاقه؛ لعرف أن مراد ابن القيم؛ المعاصي؛ لا البدع.
وهذا سياق كلامه كاملاً؛ قال:
"فإن قيل: فقواعد الشرع؛ تقتضي أن يسامح الجاهل بما لا يسامح به العالم، وأنه يغفر له ما لا يغفر للعالم؛ فإن حجة الله عليه أقوم منها على الجاهل، وعلمه بقبح المعصية وبغض الله لها وعقوبته عليها؛ أعظم من علم الجاهل، ونعمة الله عليه بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل. وقد دلت الشريعة، وحكم الله؛ على أن من حبي بالإنعام، وخص بالفضل والإكرام؛ ثم أسام نفسه مع ميل الشهوات؛ فأرتعها في مراتع الهلكات، وتجرأ على انتهاك الحرمات، واستخف بالتبعات والسيئات؛ أنه يقابل من الانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته، وعلى هذا جاء قوله تعالى: }يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا{. ولهذا كان حد الحر ضعف حد العبد في الزنا، والقذف وشرب الخمر لكمال النعمة على الحر، ومما يدل على هذا؛ الحديث المشهور الذي أثبته أبو نعيم وغيره؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه). قال بعض السلف: يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب. وقال بعضهم أيضاً: إن الله يعافي الجهال ما لا يعافي للعماء. فالجواب: إن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريب فيه، ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضاً؛ أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر؛ فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفي عنه ما لا يعفي عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث؛ بخلاف الماء القليل؛ فإنه لا يحمل أدنى خبث. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"اهـ (مفتاح دار السعادة 1/273-274)
سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب
رابعاً: كلام ابن رجب:
نقل عنه؛ قوله: "وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين؛ فأما أهل البدع والضلالة، ومن تشبه منهم بالعلماء؛ وليس منهم؛ فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم، وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم".
وابن رجب لا يريد بكلامه هذا؛ الاجتهاد في الأصول، أو أن البدعة في الأصول مغتفرة إذا صدرت من كبير الشأن؛ فإن هذا لا كان، ولا يكون.
إنما يريد الخطأ في المسائل الفقهية؛ فإن من اجتهد؛ فأخطأ، وأباح المتعة والصرف، أو أباح المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد، أو غير ذلك مما يخالف السنة الصريحة؛ فهذا يرد عليه خطؤه، ويحفظ له مقامه، ويرجى له الأجر لاجتهاده، ويذكر بالجميل طالما عرف بالاستقامة في الدين.
قال رحمه الله: "رد المقالات الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية؛ ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء؛ بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه؛ فلا يكون داخلاً في الغيبة بالكلية؛ فلو فرض أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق؛ فلا عبرة بكراهته لذلك؛ فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة؛ بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له سواء كان ذلك في موافقته أو مخالفته. وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمة المسلمين وعامتهم وذلك هو الدين؛ كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب وأحسن في الرد والجواب فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه، وإن صدر منه الاغترار بمقالته فلا حرج عليه، وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله؛ يقول: (كذب فلان) ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كذب أبو السنابل) لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً؛ لا تحل بوضع الحمل حتى يمضى عليها أربعة أشهر وعشر. وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردها أبلغ الرد كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها، ويبالغ في ردها عليهم؛ هذا كله حكم الظاهر. وأما في باطن الأمر؛ فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بقالات من أخطأ في مقالاته؛ فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم. وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أو كبيراً؛ فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها، وأنكرت عليه من العماء مثل المتعة والصرف والعمرتين وغير ذلك. ومن رد على سعيد بن المسيب قوله في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذ بها عن العلماء، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم. ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة ولا عيباً لهم، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جداً. وأما إذا كان مراد الراد بذلك إظهار عيب من رد عليه وتنقصه وتبيين جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك؛ كان محرماً سواء كان رده لذلك في وجه من رد عليه أو في غيبته وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخل فيما ذمه الله تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز، وداخل أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته) وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين؛ فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم؛ فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم؛ تحذيراً من الاقتداء بهم. وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم"اهـ (الفرق بين النصيحة والتعيير ص 10-13)
فظهر من كلامه؛ أنه يريد الخطأ في المسائل اليسيرة؛ لا الخطأ في الأصول، ولو كان مجتهداً.
يبين ذلك، ويجليه؛ قوله في موطن آخر:
"إن أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة؛ مما لا تقدح في إمامتهم وعلمهم؛ فكان ماذا؟ فلقد انغمر ذاك في محاسنهم، وكثرة صوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين"اهـ (مجموع رسائل الحافظ ابن رجب 2/ 637)
وأخيراً أقول: هب - جدلاً - أنهم أرادوا ما ذكره المردود عليه؛ لقلنا: أخطئوا رحمهم الله؛ فكان ماذا!
فلن نترك كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنهج سلفنا الواضح المستبين؛ لقول عالم - كائناً من كان - لا ندري أصاب؛ أم أخطأ.
على أن المردود عليه؛ يناقض نفسه بنفسه؛ فيقول: (وأهل السنة يخطئون ولا يبدعون؛ لا سيما في المسائل التي قد يخفى فيها الدليل).
وعش رجباً ترى عجباً.
قوله: (كف الألسنة عن أهل العلم؛ واجب).
مثال على التعالم البغيض.
أي واجب؟!
وما فائدة الجرح والتعديل؛ إذن؟
وعلى ماذا يكون الولاء والبراء؛ إن لم نميز بين السني، والمبتدع؟
فإذا كان المردود عليه؛ جاهلاً بمنهج السلف لهذا الحد؛ أليس في منهج من ينتسب إليهما، ويتزلف لهما، وينافح عنهما (ربيع والحجوري) ما يمنعه من هذا القول الذي يضحك الثكالى.
وإلا فعلام أطلق ربيع لسانه؟
وعلام بدع وجدع الحجوري؛ عبيداً الجابري؟
أليس لأنه يرى أنه مبتدع ضال مضل - مع أن خطأه ليس في الأصول -.
بل علام لقب ربيع بـ (إمام الجرح والتعديل)؟
أليس لكلامه في أخطاء العلماء، وطلبة العلم؛ فمن استحق التبديع بدع، وإلا نوه عن خطئه، وحذر منه.
فكيف تقول إذاً؛ (كف الألسنة عن أهل العلم؛ واجب).
ما أقبح الجهل، وما أبشعه!
قوله: (ومن صفات الحدادية التي نقلتها في بعض مقالاتك عن العلامة المجاهد الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله ]كذا قلت في رسالتك، وأما في مجالسك الخاصة فهو حامل راية الإرجاء وناشره في العالم اليوم؛ فالله المستعان على هذه التقية الباطلة[ (قولهم بتبديع كل من وقع في بدعة، وابن حجر عندهم أشد وأخطر من سيد قطب) ثم قلت معلقاً: فهل تجدون من قريب أو من بعيد لمزاً لا أقول تبديعاً لابن حجر؟ بل لمن هو دون ابن حجر؛ فهذه كتبنا ورسائلنا انظروا فيها؛ فإن وجدتم شيئاً من ذلك فأظهروه، وإلا فارعووا واتقوا الله، ودعوا التلبيس، والتدليس".
فقد كنت أقلد ربيعاً في هذا، ولما ظهر لي خطؤه؛ تراجعت، وحذفت المقالة، وكذا مقالة أخرى تتعلق بالثناء عليه هو والألباني؛ مع أن هذا لا يلزمني بعد أن صرحت بموقفي الأخير منهما؛ في غير ما موضع من كتاباتي.
لكني فعلت ذلك؛ لإخراس أمثال المردود عليه؛ ممن فرغ نفسه للساقطة، واللاقطة.
أما ما نقله عني، وهو قولي (فهل تجدون من قريب أو من بعيد لمزاً لا أقول تبديعاً لابن حجر؟ بل لمن هو دون ابن حجر؛ فهذه كتبنا ورسائلنا انظروا فيها؛ فإن وجدتم شيئاً من ذلك فأظهروه، وإلا فارعووا واتقوا الله، ودعوا التلبيس، والتدليس).
فحق، وأنا صادق فيه؛ فأنا لم أتطرق في هذه الفترة إلى ابن حجر أو النووي؛ لا في كتبي، ولا في دروسي.
قوله: (ومن صفات الحدادية التي نقلتها في بعض مقالاتك عن العلامة المجاهد الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله. ثم كتبت في الهامش قائلاً: ]كذا قلت في رسالتك، وأما في مجالسك الخاصة فهو حامل راية الإرجاء وناشره في العالم اليوم؛ فالله المستعان على هذه التقية الباطلة[
فتدليس قبيح، وكذب صريح؛ لأنه يوهم أنني في الوقت الذي كنت أثني عليه في الظاهر؛ كنت أطعن فيه في مجالسي الخاصة.
وهذا كذب، وكل من يعرفني يعلم أن هذا ليس خلقاً لي، ولو كنت أجيده لما كان هذا حالي، ولما طالتني ألسنة السفهاء.
بل كنت أمدح ربيعاً، وأنافح عنه في الخفاء قبل العلن؛ فلما تبين لي أمره نقدته نقداً شديداً في (يا سلفيون اعدلوا) ثم ثنيت بـ (ليسكت معور عن معور) ثم توالت بعد ذلك الانتقادات المكتوبة، والمسجلة؛ أمامكم، وأمام غيركم.
ومنذ نشري للمقالة الأولى (يا سلفيون اعدلوا) لم أذكره بخير أبداً.
والمردود عليه، ورفقاؤه في الجهل؛ يعلمون هذا جيداً؛ فقد كنت أجدع وأبدع إمامهم، ولا يحرك أحد منهم ساكناً.
فلا أدري منذ متى أصابتهم هذه الشفقة المصطنعة بربيع؟!
أما وصف المردود عليه؛ لربيع بـ (العلامة المجاهد) بعد كل الذي بينته؛ فيصدق فيه قول الشاعر:
لقد هزلت حتى بدى من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس


0 التعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.