هل تجرؤ الحدادية على رمي هؤلاء الأئمة بالإرجاء
كتب أحد مرجئة سحاب مقالة بهذه العنوان؛ قال فيها: "قال الشيخ ربيع حفظه الله تعالى: (كان مسعر رحمه الله تعالى لا يقول بالاستثناء؛ فقيل للإمام أحمد: أهو مرجئ؟ قال: لا)، وقال الشيخ ربيع حفظه الله تعالى: "وفي بعض الروايات عنه - أي الإمام مالك رحمه الله تعالى - قال: دع الكلام في نقصانه، وقد ذكر الله زيادته في القرآن؛ قيل: فبعضه أفضل من بعض؟ قال: نعم. قال بعض أهل العلم: إنما توقف مالك عن نقصانه في هذه الرواية خوفاً من الذريعة؛ أن تتأول أنه ينقص حتى يذهب كله؛ فيؤول ذلك إلى قول الخوارج الذين يحبطون الإيمان بالذنوب، ولكن إنما نقصه عنده فيما وقعت فيه زيادة)، وقال الشيخ ربيع حفظه الله تعالى: "وبعض أئمة السلف، وهو ابن المبارك عدل عن لفظ الزيادة والنقصان؛ إلى لفظ التفاضل؛ كما نقل ذلك ابن تيمية)، وقال الشيخ ربيع حفظه الله تعالى: "وقد نازع ابن أبي العز شارح الطحاوية في قوله: (إن النزاع لفظي أو صوري) المشايخ الأجلاء ابن باز، والألباني، والفوزان، ولم يتعرضوا لشيخ الإسلام فيما أذكر؛ ثم هذا الاعتراض منهم؛ كان على طريقة أهل العلم النبلاء؛ من الاحترام، والتقدير، والابتعاد عن التبديع، والتشهير، والتهويش). أقول: فهؤلاء أئمة أهل السنة؛ لم يرمهم أحد بالإرجاء، أو حتى بالوقوع فيه؛ فماذا أنتم قائلون عنهم يا أفراخ الحدادية"اهـ
وقوله هذا أو قول شيخه؛ ينبئ عن أشياء:
أولاً: أن المداخلة يعرفون البدعة وأسباب التبديع. والدليل: قول هذا الجويهل: (فهؤلاء أئمة أهل السنة؛ لم يرمهم أحد بالإرجاء، أو حتى بالوقوع فيه؛ فماذا أنتم قائلون عنهم يا أفراخ الحدادية). فلو لم يكن ما قاله هؤلاء بدعة؛ لما ألزم الحدادية بتبديعهم.
ثانياً: أنهم يطعنون في مالك وابن المبارك ومسعر حيث يرمونهم بالبدعة. والطعن في العلماء من أكبر الكبائر وأعظم الموبقات عند المداخلة؛ فكيف بالأئمة من أمثال هؤلاء.
ثالثاً: أنهم يتشبثون بأي شيء ولو كان في غاية الضعف والتهافت للتدليل على منهجهم العفن في الاعتذار للمبتدعة ورؤوس الضلال، ومع هذا ففيما ذكروه حجة عليهم كما سيأتي.
أما مسعر: فمرجئ، ومجرد ذكره في المقالة حجة عليهم لو كانوا يعقلون؛ حيث بُدع لأنه لا يستثني، وهو أسهل أقوال المرجئة؛ ومع هذا فلم يغفروا له هذه المسألة اليسيرة التي خالف فيها، ولا غضوا الطرف عنها، ولا التفتوا إلى كونه على السنة في سائر أمره، مع علم وعبادة وزهد وورع؛ بل بدعوه بمجرد مخالفته في الاستثناء مع كونه يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وأما ابن المبارك: فلم يخالف في شيء أصلاً؛ فضلاً عن أن ينسب إلى بدعة؛ إنما عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل، وكان مقصوده: الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع؛ إلى معنى ثابت لم ينازع فيه أحد.
وأما مالك فلم ينف النقص إنما توقف عن القول به فحسب، وفرق بين الجزم بنفي الشيء، وبين التوقف فيه، لكن لما تبينت له المسألة؛ قال فيها بقول أهل السنة، وجزم بنقص الإيمان؛ كما هو المشهور والثابت عنه من طرق متعددة؛ فنُسخ بذا قوله الأول، وصار المعروف عنه عند أهل العلم؛ أنه يقول بالزيادة، والنقصان.
قال أحمد بن القاسم: "قلت: يا أبا عبدالله؛ تقول: الإيمان يزيد، وينقص؟ قال: نعم .. فتذاكرنا من قال: الإيمان يزيد وينقص؛ فعد غير واحد؛ ثم قال: ومالك بن أنس؛ يقول: يزيد، وينقص؛ فقلت له: إن مالك يحكون عنه؛ أنه قال: يزيد، ولا ينقص؛ فقال: بلى؛ قد روي عنه: يزيد وينقص؛ كان ابن نافع يحكيه عن مالك؛ فقلت له: ابن نافع حكى عن مالك؟ قال: نعم"اهـ (السنة للخلال 1043)
وقال عبدالرزاق: "سمعت سفيان الثوري، ومعمر، وابن جريج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة؛ يقولون: الإيمان قول، وعمل؛ يزيد، وينقص"اهـ (التمهيد (9/252)
وقال: "لقيت اثنين وستين شيخاً؛ منهم: معمر والأوزاعي والثوري والوليد بن محمد القرشي ويزيد بن السائب وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وشعيب بن حرب ووكيع بن الجراح ومالك بن أنس وابن أبي ليلى وإسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم ومن لم نسمه؛ كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص"اهـ (شرح أصول الاعتقاد 1737)
وقال إسحاق بن محمد الفروي: "كنت عند مالك بن أنس؛ فسمعت حماد بن أبي حنيفة يقول لمالك: يا أبا عبدالله؛ إن لنا رأياً نعرضه عليك فإن رأيته غير ذلك كففنا عنه. قال: وما هو؟ قال: يا أبا عبدالله؛ لا نكفر أحداً بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا. قال: ما أحسن هذا، ما بهذا بأس. فقام إليه داود بن أبي زنبر وإبراهيم بن حبيب وأصحاب له؛ فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عبدالله إن هذا يقول بالإرجاء، قال: ديني مثل دين جبريل وميكائيل والملائكة المقربين. قال: لا والله، الإيمان يزيد وينقص }هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا{، وقال إبراهيم: }أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي{؛ فطمأنينة قلبه زيادة في إيمانه"اهـ (شرح أصول الاعتقاد 1743)
قال ابن عبدالبر: "روى عنه عبدالرزاق، ومعمر بن عيسى، وابن نافع، وابن وهب؛ أنه يزيد، وينقص؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"اهـ (التمهيد (9/252)
فالقول بأن مالكاً توقف - في بادئ الأمر - عن القول بنقص الإيمان، كالقول بأنه رحمه الله كان يقول: أبو بكر وعمر ويقف، أو أن أحمد رحمه الله توقف - في بادئ الأمر - عن تكفير من قال بخلق القرآن، أو أن الثوري رحمه الله كان يثلث بعلي رضي الله عنه. والأمثلة كثيرة لكن هذا ما يحضرني الآن.
فهذه الأقوال وغيرها لا يصح ذكرها إلا على سبيل بيان أن العالم قد تخفى عليه بعض المسائل بداءة، أو يتوقف فيها لأول وهلة حيث لا يتبين له الصواب، ثم يوفق بعد ذلك إلى إصابة الحق فيها، وإذ ذلك كذلك فذكرها لغرض إثبات الخلاف، لا يحل لأنه يكون حينئذ من الكذب والبهتان.
تحميل الموضوع هل تجرؤ الحدادية على رمي هؤلاء الأئمة بالإرجاء
0 التعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.