إبراهيم بن طهمان
1
أما قول الجاهل: "أما إبراهيم بن طهمان الذي جاء ذكره في الخبر معه، فقد ثبت في حقه الإرجاء في أخبار أخرى غير هذا الخبر، وإرجاء بن طهمان وأمثاله، لم يكن في إخراج العمل من الإيمان، وإنما له صورة أخرى. قال أبو الصلت: لم يكن إرجاؤهم هذا المذهب الخبيث: أن الإيمان قول بلا عمل، وأن ترك العمل لا يضر بالإيمان، بل كان إرجاؤهم: أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر الغفران، رداً على الخوارج وغيرهم الذين يكفرون الناس بالذنوب"اهـ
فقد علقت عليه في عجالة في مقالة (أبو حمزة السكري) حيث قلت: "هذا ولم يخل هذا الجاهل قالة السوء هذه؛ من فضيحة تظهر مدى جهله؛ فنقل عن أبي الصلت مدافعاً عن إخوانه المرجئة؛ قوله: "لم يكن إرجاؤهم هذا المذهب الخبيث؛ أن الإيمان قول بلا عمل وأن ترك العمل لا يضر بالإيمان؛ بل كان إرجاؤهم أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر الغفران، رداً على الخوارج وغيرهم الذين يكفرون الناس بالذنوب؛ فكانوا يرجون، ولا يكفرون بالذنوب".
وأبو الصلت غارق في الضلال فقوله والعدم سواء؛ قال الجوزجاني في ترجمته: "كان زائغا عن الحق مائلاً عن القصد؛ سمعت من حدثني عن بعض الأئمة أنه قال فيه: هو أكذب من روث حمار الدجال، وكان قديماً متلوثاً في الأقذار".
ومما يدل على جهل أبي الصلت وجهل هذا المتعالم الذي نقل عنه؛ أن ما نسبه إلى المرجئة هو قول أهل السنة.
قال سفيان الثوري: "نحن نرجو لجميع أهل الذنوب والكبائر الذين يدينون ديننا ويصلون صلاتنا، وإن عملوا أي عمل".
وقال عبدالملك بن حبيب: "السنة أن يصلى على كل من وحد الله، وإن مات مسرفاً على نفسه بالذنوب، وإن كانت كبائر؛ إذا كان مستمسكاً بالتوحيد مقراً بما جاء من عند الله، فإنه يصلى عليه وإثمه على نفسه، وحسابه على ربه، وهو عندنا مؤمن بذنبه، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، ولا نخرجه بالذنوب من الإسلام، ولا يوجب له بها النار حتى يكون الله الذي يحكم فيه بعلمه ويصيره إلى حيث شاء من جنة أو نار، إلا أنا نرجو للمحسن، ونخشى على المسيء المذنب. بهذا ندين الله، وبه نوصي من اقتدى بنا وأخذ بهدينا، وهو الذي عليه أهل السنة، وجمهور هذه الأمة".
وقال ابن بطة: "وقد أجمعت العلماء - لا خلاف بينهم - أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء".
ونقل الصابوني اعتقاد أئمة السلف؛ فقال: "ويعتقد أهل السنة: أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر كانت أو كبائر، فإنه لا يكفر بها وإن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب، واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار".
وقال ابن تيمية: "أهل السنة والحديث، وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة؛ متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء؛ لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار كما تقول الخوارج والمعتزلة. لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة؛ أنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته. وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث. ولا يقولون: إنا نقف في الأحكام المطلقة، بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخله من أهل الكبائر، وناس آخرون لا يدخلونها لأسباب. لكن تنازعوا: هل يكون الداخلون بسبب اقتضى ذلك؛ كعظم الذنوب وكثرتها، والذين لم يدخلوها بسبب منع ذلك، كالحسنات المعارضة ونحوها؟ وأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله بحكمة وأسباب؟ أم قد يفرق بين المتماثلين بمحض المشيئة، فيعذب الشخص ويعفو عمن هو مثله من كل وجه بمحض المشيئة؟
هذا لهم فيه قولان، والنصوص وأقوال السلف توافق الأول.
وإنما قد نقف في الشخص المعين; فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم، لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء.
ولهم في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال:
منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء. وهذا قول محمد ابن الحنفية، والأوزاعي.
والثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص. وهذا قول كثير من أهل الحديث.
والثالث: يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم شهداء الله في الأرض». وقال: «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيء». فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار. وكان أبو ثور يقول: (أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة) ويحتج بهذا. وبسط هذه المسألة له موضع آخر".
فهذا الجاهل نفى الإرجاء عن المرجئة، وصحح مذهبهم، ونقلهم من البدعة إلى السنة، وبيَّن جهل أئمة السلف الذين لم يفرقوا بين الإرجاء المذموم وغير المذموم، ومدى رعونتهم حيث نسبوا إلى البرءاء ما ليس فيهم.
ولو قلب هذا الأحمق بصره في كتب الرجال، ومنها كتاب إمامه ابن حجر؛ لوجده يقول في ترجمة ابن طهمان: "لم يثبت غلوه في الإرجاء، ولا كان داعية إليه".
فلو كان إرجاء ابن طهمان كما يزعم؛ لما قال ابن حجر في حقه ما قال، وإلا فالغلو في هذا المعتقد، والدعوة إليه من السنة المحضة، وهل يبدع من يقول بقول أهل السنة؟" انتهى.
وأظن أن في هذا كفاية للدلالة على أن ابن طهمان لم يكن كما ذكر ذاك الجاهل مقلداً في ذلك المبتدع الضال أبو الصلت، يرجو لأهل الكبائر المغفرة، إنما كان مرجئاً خبيثاً يؤخر العمل عن الإيمان، ويقول: الإيمان قول. مثله مثل أبي حنيفة وعمرو بن مرة وحماد بن أبي سليمان وابن أبي رواد وغيرهم من رؤوس المرجئة.
فلا يُذم ويُرمى بالإرجاء من لا يكفر بالكبيرة ويرجو لأصحاب الذنوب، فإن هذا قول أهل السنة، ومما يُمدح به المرء، إلا إذا قيل: إن أئمة السلف لم يعرفوا حقيقة الإرجاء الذي يُجرح به الرجل، وعرفه ذاك الزائغ أبو الصلت!
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل، ومع هذا: فهذه بعض الآثار التي تبين إرجاء ابن طهمان.
قال الحسين بن الوليد: صحبت مالك بن أنس في طريق مكة، فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل نيسابور. قال: تعرف ابن طهمان؟ قلت: نعم. قال: يقول أنا عند الله مؤمن. قال: فكانت فرصتي منه، فقلت: ما بأس بذلك؟ قال: فأطرق ساعة، ثم قال: لم أجد المشايخ يقولون ذلك.
وفي رواية: فقال: لي: يا هذا ما هذه الأعجوبة التي تبلغنا عن طهمانيكم؟ قال: قلت ما الذي بلغك؟ قال: بلغني أنه يقول: إيماني مثل إيمان جبريل. فقلت: وما له لا يقول ذلك - كي أغضبه - قال: ويحك لا تقله؛ لأن السلف لم تقله.
فهذا هو إرجاء ابن طهمان الذي زعم هذا الجاهل أنه لم يكن يقول به.
وقال جرير: رأيت رجلاً تركي الوجه على باب الأعمش، يقول: كان فلان مرجئاً؛ يعني رجلاً عظيماً، فذكرت ذلك للمغيرة؛ فقال: فعل الله بهم وفعل، لا يرضون حتى يحلون بدعتهم الأئمة.
والتركي هو: ابن طهمان. وقول المغيرة يدل على أن الإرجاء بدعة، وهو الذي كان عليه ابن طهمان الذي أراد أن يروج لبدعته فنسبها إلى بعض أئمة السنة.
وقال نعيم بن حماد: سمعت عن إبراهيم بن طهمان منذ أكثر من ستين سنة، أنه مرجئ.
ولو كان ابن طهمان على السنة لا يكفر أهل الكبائر، ويرجو لهم المغفرة، كما زعم هذا الجاهل، لما ذُم على ذلك، ولما وُصف بأنه كان مرجئاً منذ ستين سنة.
أو يقال: أراد نعيم وصفه بأنه على السنة منذ ستين سنة.
ولما مات أبو حنيفة؛ قال سفيان الثوري لعبدالصمد بن حسان: اذهب إلى إبراهيم بن طهمان؛ فبشره أن فتان هذه الأمة قد مات. قال الخطيب: أراد الثوري أن يغم إبراهيم بوفاة أبي حنيفة، لأنه على مذهبه في الإرجاء.
فإما أن يكون أبو حنيفة مرجئاً ضالاً؛ فيكون ابن طهمان كذلك لأنه على مذهبه. أو يكون سنياً سلفياً فيكون ابن طهمان كذلك أيضاً. ولا ينتطح عنزان في أن أبا حنيفة هو رأس الإرجاء.
قال عبدة: سمعت ابن المبارك، وذكر أبا حنيفة؛ فقال له رجل: هل كان فيه من الهوى شيء؟ قال: نعم؛ الإرجاء.
وقال مالك بن أنس: كانت فتنة أبي حنيفة أضر على هذه الأمة من فتنة إبليس في الوجهين جميعاً، في الإرجاء، وما وضع من نقض السنن.
وقال عبدالله بن يزيد المقرئ: دعاني أبو حنيفة إلى الإرجاء؛ فأبيت عليه.
وقال الأشعري: الفرقة التاسعة: من المرجئة المنتسبين إلى أبي حنيفة وأصحابه؛ يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله وبالرسول والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة؛ دون التفسير.
أو يقول هذا الجاهل: إن أبا حنيفة من أهل السنة، وأئمة السلف إنما تكلموا فيه بغياً وحسداً، كما قال إمامه ابن عبدالبر.
فهذا الجاهل نسب أهل السنة إلى البدعة، والعكس، وبرأ كبار المرجئة من الإرجاء، ونسب أئمة السلف إلى الجهل والهوى.
وأنا لا أدري حتى هذه الساعة كيف طاب لأهل السنة وساغ لهم أن يرموا من لم يكفر بالذنوب، ويرجو المغفرة لأهل الكبائر، بالإرجاء؟!
والإرجاء إذا أطلق، فإنما يراد به من يقول: الإيمان قول. فهذا هو قول المرجئة، وهم المقصودون به أصالة، وهو المعروف عن أهل السنة، بل وفي لغة أهل العلم، لا يعنون به أبداً من كان لا يكفر بالذنوب ويرجو لأهل الكبائر، فإن هذا قول محدث افترعه أبو الصلت الزائغ الضال، وراج على المبتدعة أمثال هذا الجاهل وأئمته كالخطيب والذهبي، فضلاً عن كون الإرجاء غير الرجاء، فليس ثم صلة بين من يرجو (من الرجاء) لأهل الكبائر المغفرة، وبين من يرجئ (من الإرجاء) العمل عن الإيمان.
قال الإمام أحمد: "من يقول: إنما الإيمان قول. هذا قول أهل الإرجاء، قول محدث لم يكن عليه سلفنا، ومن نقتدي به".
وقال ابن تيمية: "فلهذا ردوا على المرجئة الذين يجعلون الدين والإيمان واحداً، ويقولون: هو القول".
أفيليق بعد هذا، أن يُرمى بالبدعة، من تمسك بالسنة، ودعا إليها؟!
ويُنسب إلى السنة، من ركب البدعة، ونافح عنها؟!
وقال صالح جزرة: إبراهيم بن طهمان هروي ثقة يميل شيئاً إلى الإرجاء في الإيمان.
وليس أصرح من هذا في أن إرجاء ابن طهمان كان في الإيمان، وليس كما قال هذا الجاهل.
وقال إسحاق بن إبراهيم: لو عرفت من إبراهيم بمرو ما عرفت منه بنيسابور؛ ما استحللت أن أروي عنه.
ولا أدري ماذا فعل ابن طهمان لكي لا يروي عنه إسحاق؟ ألمجرد أنه كان يرجو لأهل الكبائر يقف منه هذا الموقف؟ أليس قوله هذا هو قول أهل السنة؟!
لقد استفدنا من هذا الجاهل فائدة عزيزة، وهي أن من يذم الإرجاء وأهله، فإنه يريد بذلك: ذم السنة وأهلها.
فإذا قال أحمد عن إبراهيم: كان يرى الإرجاء. عرفنا أن إبراهيم كان على السنة.
وإذا قال أبو داود: قدم نيسابور فوجدهم على قول جهم، فنقلهم من قول جهم إلى الإرجاء. فإنما يريد أنه نقلهم من قول جهم إلى السنة.
وإذا قال العقيلي: كان رأساً في الإرجاء فذم لذلك. عرفنا أن ابن طهمان كان رأساً في السنة، وإن كان قوله (فذم لذلك) مشكل، إذ كيف يُذم من كان رأساً في السنة؟ أو لعل هذا من جهل العقيلي.
وكذلك لا ندري معنى قولهم في ترجمة طلق بن حبيب: لم يُنقم عليه غير الإرجاء. إذ كيف ينقمون عليه تمسكه بالسنة؟! إلا إذا كان الإرجاء مغايراً للسنة.
وكذلك قول أحمد: تقربوا إلى الله تعالى ببغض أهل الإرجاء؛ فإنه من أوثق الأعمال إلينا. فإنه مشكل أيضاً، إذ كيف يُتقرب إلى الله ببغض أهل السنة.
فعلى هذا الجاهل أن يثبت أن ما كان عليه ابن طهمان وأصحابه لا يخالف السنة في شيء، بل هو اعتقاد أهل السنة، فإن أثبت ذلك، وهيهات، فعليه أن يجيب عن ذم السلف للإرجاء والمرجئة، وابن طهمان واحد منهم، بل من كبارهم.
وقال إبراهيم النخعي: الإرجاء بدعة. والمرجئة تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابري. فإذا كان الإرجاء بدعة، فما السنة إذاً؟!
وسئل أحمد عن علي بن الحسن بن شقيق؛ فقال: لم يكن به بأس، إلا أنهم تكلموا فيه في الإرجاء، وقد رجع عنه.
ولا يُمدح الإنسان برجوعه عن الحق، وتركه السنة.
وقال ابن حجر: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه؛ غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان.
إذاً فالإرجاء الذي يعيبه أهل السنة هو المتعلق بالإيمان، وليس كما زعم هذا الجاهل. فأي ذكر للإرجاء والمرجئة فإنما يريدون به كلامهم في الإيمان وبدعتهم التي فارقوا بها أهل السنة.
تحميل الموضوع إبراهيم بن طهمان
منشورة في:
0 التعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.